Notes

1988/3/3

جدة - منطقة مكة المكرمة - المملكة العربية السعودية.

بعد إنهيار مؤسسة آل هادي للمقاولات العامة وأعمال البناء , التي أستمر ربحها عقودًا من الزمن على أيدي الشركاء الذين فاق ربحهم شركة آل هادي , ومنهم : السيد محمد العبدلي , عبد الرحمن بخاري , أيمن بخاري , وعبدالله جمجوم , يخالج رئيس المؤسسة أحمد آل هادي شعور باليأس ويقوم بالإنتحار - على حسب ما قررت الهيئة العامة للتحقيق والإدعاء العام - في ظروف غامضة ومحيرة , ويترك إبنًا في رحم زوجته السيدة رانية عبدالكريم , وبعد ولادته ماتت السيدة ولم تنطق بإسم المولود الجديد بعد , فتمت تسميته بـ عيسى إيجابًا لإقتراح دكتورة الباطنية الآنسة سناء.

ترعرع عيسى في دار الأيتام , وعاش حياة لا تملؤها إلا المطاردة والملاحقة والضرب المبرح , والمعاملة السيئة , حتى تم تجريد جميع الأيتام من طفولتهم , التي لا يوجد سبب ليفقدوها , ولم يكن ذنبهم بأنهم أيتام وسقطوا بأيدي شخص لعين وحقير كمشرف الدار.. فتربّى تربية سيئة لا يعرفون محاسن الأخلاق مثل التسامح والطيب والكرم .

لا يخطر ببال أحدكم هي كمية المعاناة التي يعيشها الأيتام , في نظري فإن اليتيم هو شخص تم تجريده من حنان الأم ورحمة الأب , لا يمكن أن تتصور ماذا يحس اليتيم عندما يعاني من معاملة سيئة وهو في دار الأيتام.

بعد بلوغه سنة السابعة أُدخل أحد مدارس مدينة جدة التي يكون فيها المبنى مستأجرًا , لا تستغرب عزيزي القارئ بأن رغم ثراء بعض الدول هنالك من يعانون دائمًا , لا توجد مجتمعات خالية من الفقراء والفقر والمعاناة , فللقمر جانب مظلم أيضا رغم نوره~



بلغ عيسى سن الثامنة عشر , بعد تخرجه من المرحلة الثانوية , وبينما كان يجول في إحدى الحدائق العامة , بالتحديد في شمال جدة , وكان يجول بنظره يمنة ويسرة , ويرى طفلا صغيرا بالكاد يقف ويمشي ويلعب , ثم يجري بسرعة إلى أبيه ويحتضنه , وكلما زادت قوة احتضان الأب إلى أبيه , كلما أعتصر قلب عيسى ويتقطع , فيرى عطفًا ومحبةً لم ولن يمر به , ويسمع فتاة تطلب من أمها أن تعطيها نقودًا , ويتكسر خاطره كتكسير الزجاج ..

حتى أتى يوم وكان يقرأ الجريدة بحثًا عن فرص للعمل , فراح يركز بصره على إعلان هام , وهو فرص عمل لدى شركة الفانوس لأعمال البناء , والتقديم بالقرب من شارع حراء .. فتوجه فورًا وسأل عن الموقع ودخل الشركة وتوجه لقسم التوظيف.

الذي أستغرب منه عيسى , انه لا يوجد متقدمين للعمل سواه؟ ما الأمر؟

دخل على مكتب صاحب العمل , وكان من يجلس على المكتب هو رئيس الشركة بذاته! كان سمينًا ومتوسط الطول , يلبس الشماغ والعقال , وثوب كثرت فيه الزخرفة الغير لازمة , ورأسه مستديرة , وبشرته بيضاء , ووجه تعلوه إبتسامة مفتقرة لبعض الأسنان الأمامية , والبعض منها أصفر ومكسور , ويلبس ساعة فخمة مطلية بالذهب شديد اللمعان , وتزين الخواتم المختلفة بألوانها وأحجامها وأشكاله أصابعه القصيرة.

على مكتب رئيس الشركة كان يوجد حاسب آلي , وأوراق وأختام وأقلام ذهبية , علبة منديل لم تفتح بعد , ولوحة صغيرة مكتوب عليها أسم مألوف , " عبدالله جمجوم " وبعض المجسمات الجمالية الأخرى التي تملى ما تبقى من مساحة المكتب .

" مرحبا , حياك ! تفضل تفضل يا ابني " قال عبدالله.

علت ملامح الدهشة الخفيفة على وجه عيسى , ثم قال بصوت لوحظ فيه الهم وهو يجلس على الكرسي :

" شكرا , يزيد فضلك , أبغى أشوف الأماكن الشاغرة واللي تناسبني عندكم حسب الإعلان , أنا شاب ماعندي اهل أو أخوان أو أقارب وماقدرت ألاقي أحد يصرف عليا الا نفسي , وطول السنين دي وانا متمرمط , لكن أهل الخير و الجمعيات الخيرية يدفعوا لي اليسير".

تحولت ملامح الترحيب والضحكات إلى ملامح شفقة وحزن على وجهه والتي تدل على مشاعر كاذبة , ليست إلا شكليات.

" أوه .. أوه , أحاول أتفهم شعورك يا ابني , طبعا عندنا شغل ليك لكن حاب أتعرف عليك أكثر , الإسم الكريم؟ "

" عيسى أحمد آل هادي "

سرح عبدالله جمجوم قليلًا في مجسم جمالي على مكتبه , ثم رجع لما كان عليه وقال :

" والنعم حياك يا أخ عيسى "

ثم أخذ نفس عميق وإستئنف كلامه وقال :

" شركتنا شركة صغيرة وهي متفرعة من شركة أكبر , طبعا راح نلاقي لك شغل وبأسرع وقت ممكن , اذا سمحت العنوان ورقم الجوال "

تجهم وجه عيسى وقال بحزن :

" ماعندي جوال ومافيه مكان أسكن له "

أزداد تمثيل عبد الله جمجوم اكثر وتصنعه :

" بالله عليك يا ابني ؟ انتا تقطع القلب!" ثم أبتسم قليلا ووضحت عليه علامات الحماس وقال :

".. طيب أسمع أيش رايك أتكلم لك عن شركتنا؟ "

قال عيسى :

" طيب "

تنحنح عبدالله وقال :

" شركتنا من سنة 1986 وهي موجودة , وتفوقت من جانب الربح على بقية الشركات وبأقل خسارات وأسهمنا كل الناس تشتريها , بعد ما كانت شركة متواضعة جدا وكانت ع وشك الإفلاس , يعني تقريبا طلوع وبروز الشركة بدأ مع بدايات 1988 " .

قال عيسى :

" ماشاء الله , لكن ليش 1988 بالذات ؟ ايت شركة كانت قوية قبل 1988 ؟ "

" شركة آل مهدي , أو شركة أبوك , انا و3 معايا كنا بشركة ابوك وتلاعبنا ببعض الاشياء بالشركة وخرجنا منها زي الشعرة من العجين , وطبعا افلست الشركة وتقفلت , وابوك افصى الى ما قدّم , انتحر على حسب ملف القضية حقت وفاة ابوك , طبعا محد داري غيري انا والبشكة اللي معاي وانت , دام انك ابن احمد الساذج الامعة داك فلازم تعرف!" وضحك ضحكة ثناياها شر متغطرس محب للمال.

اتقد عيسى غضبًا , غضب مخلوط بصدمة عاطفية , وضل صامتًا.

إستئنف عبدالله حديثه :

" اهم حاجة لا تفكر تمد ايدك اللي فيها دم الغبي هذاك ولا ناديت لك حراس الامن يطردوك برا! "

استغفر عيسى ربه , ثم قال :

" طيب كمل وتكلم عن ابوية.. خلاص ما افكر اسوي شيء اللي فات مات!"

" اوكي " ثم ألتفت ونظر إلى النافذة وأعطى عيسى ظهره .

" طبعا ابوك كان ناجح , لكن السبب اللي خلانا نقلب عليه , هو حبه في الكيميا , كان مهووس بالكيميا وكان نفسه يصير عالما او مدرس كيميا , فقرر بحكم انه رئيس الشركة انه يستورد مواد كيميائية ويتعامل مع المختبرات والمستشفيات , لكن بسبب هوسه اللي ماله لزمة خصص ميزانية كبيرة واستورد مواد وعناصر ومركبات , وللحين هيا موجودة بالمستودع , ماحد مسها او فتحها لكن موجودة"