Notes
Notes - notes.io |
تاريخ دخول التطريب في قراءة القرآن الكريم
لقد كان التابعون تلاميذ الصحابة يتبعون في قراءة القرآن الترتيل الذي تعلَّموه من الصحابة كما أشرنا، وهو الترتيل الذي قرأ به الصحابة على النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الترتيل الذي علَّمه الله تعالى لنبيه، فكان السند متصلًا اتصالًا وثيقًا، وتواترت القراءة، تواتر القرآن كما نوَّهنا.
ولكن حدث في العصر الأموي وهو عصر التابعين ومن امتدَّ به الأجل من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- أن دخل الغناء الفارسي، وتشايع ذلك الغناء بألحانه.
ويظهر أنَّ هذا الغناء تسامى بألحانه إلى القرآن الكريم، فالتوت بعض الألسنة عن الترتيل المتَّبع في عصر النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن كان حيًّا من المعمّرين من الصحابة استنكر ذلك، يروى في هذا عن زياد النميري أنه جاء مع بعض القراء إلى أنس بن مالك خادم رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم، فقيل له: اقرأ فرفع صوته وطرب، وكان رفيع الصوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء، فقال: يا هذا، ما هكذا كانوا يقرءون. وكان إذا رأى شيئًا ينكره كشف الخرقة عن وجهه.
وإنَّ هذا الخبر عن ذلك الصحابي الجليل يدل على أمرين:
أولهما: إن التطريب بالقرآن برفع الصوت وخفضه مسايرة لنغمٍ أو نحو ذلك ما كان في الترتيل الذي تلقَّاه الصحابة عن رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم.
والثاني: إنه يدل على أنَّ ذلك التطريب بقراءة القرآن قد حدث في العصر الأموي بعد أن دخل الغناء الفارسي، فهو بدعة ابتدعت، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وذلك فوق أنَّ القرآن لا بُدَّ أن يرتل ترتيلًا، وذلك ليس ترتيل القرآن، والقراءة كما قلنا متبعة.
وإنَّ التلاوة الحق كما حدَّ العلماء حدودها، وقرَّروا مقياسها في علم يدرس قد ذكر القرآن خواصها، وهي في آثارها في نفس القارئ، وفي نفس من يسمعها، وفيما تدل عليه من منزلة القرآن، مكانته في هذا الوجود.
فالله تعالى يقول في مكانته: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31] ، أي: إنَّ هذا القرآن له قوة في النفوس وفي الوجود؛ بحيث إنه يمكن أن تسيّر به الجبال، أو تكلَّم به الموتى أو تقطَّع به الأرض، فله في النفس كمال الرهبة، وله كمال التأثير، وله في الآذان جمال التعبير، فلو كانت الجبال تسير أو الأرض تقطع، أو الموتى يسمعون القرآن فإنه يكون لقراءة القرآن، فهل يتأتَّى هذا التأثير مع تلوي الألسنة والأصوات بنغماته يترنَّح بها القارئ ذات اليمين وذات الشمال، والآهات تتعالى، ويكون المكاء والتصدية.
والقرآن وصفه الله تعالى بأنه ذو الذكر، وأقسم به تعالى، فقال -سبحانه وتعالى: {وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ} ، أي: القرآن الذي يصحبه ذكر الله تعالى، وهو الذي تطمئن به قلوب المؤمنين، كما قال الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ، وسمى القرآن ذكرًا، فقال -جلَّ وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، فهل تلوية الأصوات والنبرات بغير الترتيل المنزَّل من عند الله تعالى يكون الذكر لله تعالى، والاتعاظ بقرآنه، أم هي النغمة بين التطرية والتعلية هي التي تهتز لها النفوس طريًا، وتعلو بها الأصوات إعجابًا بالمغنِّي وعجبًا.
والقرآن قد وصف الله تعالى المؤمنين عند تلاوته، فقال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] فهل تكون التلاوة للمؤمنين الذين إذا سمعوا القرآن بكوا بهذه الأصوات الذي تحدث الضجَّات المتوالية.
ويصف الله تعالى القرآن الكريم فيقول -عز من قائل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 9] .
ويبين -سبحانه وتعالى- قوة تأثير القرآن في قلوب المتَّعظين، وفي قلوب من يتفهَّمونه، فقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] ، فهل يرى أيّ مدرك للمعاني القرآنية أن ذلك يتفق مع التغنِّي والتطريب الذي يصنعه قراء العصر، إنَّ القارئ يكون مشغولًا بالطرب عن معنى القرآن وهدايته وعظاته فلا يتدبره، ولا يدرك معناه، ويكون على قلوب أقفال بما يحدثه التغني والتطريب، والاجتهاد في إثارة النفوس لا لتتعظ، ولكن لتضع ستارًا بينها وبين ما في القرآن، والله تعالى يصف القرآن الكريم بقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] .
وإن هذه الآيات التي تلوناها قبسة من نور القرآن الكريم، وهي تدل على أنه ليس شعرًا يتغنَّى به، ويتنزَّل على لحون الأعاجم قديمها وحديثها، ولكنه كتاب هداية للعظة، والاعتبار، وتوجيه النفوس، وكل تطريب بالألحان قديمه وجديده هو إلهاء عن ذكر الله تعالى، وإبعاد عن مراميه ومغازيه، فتكون النفس مشغولة بالنغم المهلي عن معنى القرآن ومرماه.
265- وإننا لا نبعد بهذا الكلام عن حقيقة مقررة ثابتة، وهي إتباع السلف في التلاوة، وهي تنتهي في أصلها إلى منزّل القرآن الكريم الذي جعله حجَّة وبرهانًا ومعجزة، وقال -سبحانه وتعالى- فيه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] ، كما تلونا من قبل.
فكل مخالفة للسلف الصالح في التلاوة مخالفة لما أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} ، ولكن وردت آثار عن الرسول -صلى الله تعالى عليه وسلم- يوهم ظاهرها جواز التغني بالقرآن، والتطريب به، والترجيح فيه، وكان لنا أن نحكم بعدَم صحة نسبتها إلى الرسول الكريم -صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن ذلك يكون إذا كانت تدل قريبًا أو بعيدًا على جواز الغناء الذي نراه الآن من بعض القراء، وعلى ما يريده الذين لم يعرفوا بأنهم أرادوا للإسلام وقارًا، بل يريدونه بورًا، أو كما يبدو في كتاباتهم، والله عليم بضمائرهم.
ولكنَّا إذا تفهَّمنا هذه الآثار عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- وعن صحابته -رضوان الله تعالى عليهم، وما ترمي إليه -إن صحت النسبة، وجدنا أننا لسنا في حاجة إلى ردِّ صحيح السند منها؛ لأن متنه لا يخالف الترتيل الذي جاء به رب القرآن ورب محمد، ورب العالمين.
1- لقد روي أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- قال فيما رواه عنه البراء بن عازب: "زينوا القرآن بأصواتكم".
2- وأخرج مسلم: "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن".
3- ولقد كان -عليه الصلاة والسلام- يسره أن يسمع القرآن من أبي موسى الأشعري، حتى روي أنه قال في سرور بقراءته: "لقد أعطيت مزمارًا من مزامير داود"، وأنه سمعه النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، فاستطاب ما يسمعه من صوته، وأبو موسى لم يشعر، فلمَّا شعر قال: "لو أعلم أنك تسمع لقراءتي لحبَّرت لك تحبيرًا".
4- وروي عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- قال: "تعلموا القرآن، وغنّوا به، واكتبوه، فوالله إنه لأشد تفصيًا من المخاض من العقل".
5- قرأ رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- عام الفتح في مسيرته سورة الفتح على راحلته فرجَّع، والترجيع في القراءة ترديد الحروف.
هذه الأخبار واردة عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، وهي في ظاهرها تدل على جواز التغني بالقرآن والترجيع فيه والتطريب به، وقد طار بهذه الآثار أولئك الذين يروجون قراءة القرآن بألحان الأعاجم، وكان لنا أن نردَّها لمخالفتها المتواتر عن الرسول -صلى الله تعالى عليه وسلم.
فلننظر إليها فهل تؤدي في مدلولها إلى جواز اتخاذ القرآن سبيلًا للتطريب في عصرنا، لتحدث القراءة طربا، ولا تحدث عظة واعتبارًا، وخشية من الله، وإحساسًا من المؤمن بأنَّ الله تعالى يخاطبه بهذا القرآن.
ولننظر فيها خبرًا نتعرَّف ما يدل عليه في ظاهره، وفي حقيقته.
أمَّا الخبر الأول: وهو ما نُسِبَ إلى النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- من أنه قال: "زينوا القرآن بأصواتكم"، فإنه لا يفسَّر بظاهره؛ لأنَّ القرآن زيّن بذاته، ولكن المتأمّل يرى أنَّ القراءة المرتّلة التي يلاحظ فيها المأثور من القراءات، وملاحظة المعاني فيها، فيرتفع الصوت فيها نسبيًّا في آيات التهديد والإنذار، ويخضعه نسبيًّا في آيات التبشير، ويقرأ قراءة المتأمّل في الآيات الكريمة الداعية إلى التفكير، فإن هذا بلا شك موافق للترتيل الذي أخذناه عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، ومصور للمعاني القرآنية من غير أن تكون القراءة صياحًا نمطيًّا، ومن غير أن تكون تلحينًا أعجميًّا، ولينًا في الإلقاء لا يسوغ.
وإنَّا نحسب أن تزيين القراءة لا يكون إلّا بالترتيل، فالتزيين في كل شيء بما يناسبه، وذلك واقع في المعنويات كما هو واقع في الحسيات والأشياء والأشخاص، ولا شكَّ أن القراءة تكون بما يناسب معاني القرآن، وموضع العظة والاعتبار والتأمل فيه، ولا يمكن أن يفسّر التزيين بالتلوي في الحروف والكلم، فإن ذلك شيين، وليس بزين.
ولنرجع إلى تفسير البراء الذي روى هذا الخبر، فقد قال في تفسيره له: "زينوا القرآن بأصواتكم" أي: الهجوا به واشغلوا به أصواتكم، واتخذوه شعارًا وزينة، وقيل: إن معناه الحضّ على قراءة القرآن.
وإن هذين التفسيرين وإن كانا غير ما فسرنا به الخبر، يتلاقيان مع تفسيرنا، ولا ينافرانه، وهما يتفقان مع غيره من الأحاديث في هذا الباب.
266- ولننظر فيما أخرجه مسلم من قول للنبي -عليه الصلاة والسلام؛ إذ قال: "ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن" فقد فسَّره بعض العلماء بأنَّ التغني هنا تحسين الصوت بقراءة القرآن، بأن يعوّد لسانه النطق السليم من قرا
|
Notes.io is a web-based application for taking notes. You can take your notes and share with others people. If you like taking long notes, notes.io is designed for you. To date, over 8,000,000,000 notes created and continuing...
With notes.io;
- * You can take a note from anywhere and any device with internet connection.
- * You can share the notes in social platforms (YouTube, Facebook, Twitter, instagram etc.).
- * You can quickly share your contents without website, blog and e-mail.
- * You don't need to create any Account to share a note. As you wish you can use quick, easy and best shortened notes with sms, websites, e-mail, or messaging services (WhatsApp, iMessage, Telegram, Signal).
- * Notes.io has fabulous infrastructure design for a short link and allows you to share the note as an easy and understandable link.
Fast: Notes.io is built for speed and performance. You can take a notes quickly and browse your archive.
Easy: Notes.io doesn’t require installation. Just write and share note!
Short: Notes.io’s url just 8 character. You’ll get shorten link of your note when you want to share. (Ex: notes.io/q )
Free: Notes.io works for 12 years and has been free since the day it was started.
You immediately create your first note and start sharing with the ones you wish. If you want to contact us, you can use the following communication channels;
Email: [email protected]
Twitter: http://twitter.com/notesio
Instagram: http://instagram.com/notes.io
Facebook: http://facebook.com/notesio
Regards;
Notes.io Team